Wednesday, March 30, 2005

سمير جرجس : الدبارة -2

سمير جرجس : الدبارة -2
ع.ع.إبراهيم
http://alsahafa.info/news/index.php?type=3&id=2147496159
رحل عنا زميلنا المرحوم سمير جرجس الى الأمجاد السماوية. ومن أبرز مساهمات رفيقنا في حركة المستضعفين في الوطن انه تولى إدارة تحرير جريدة الميدان، لسان حال الحزب الشيوعي، التي تركزت أكثر ما تركزت في تدبير المال الذي يكفل صدورها. وقد جاء الى هذه المهمة الشاقة بخبرة قومه القبط في إدارة الأعمال. فانتحى باباً من الجريدة اسمه «من الميدان» خصصه لعرض حالة الجريدة المالية على أعضاء الحزب والأصدقاء والقراء. وكان كشف حال بالأحرى. فما تأخرت بلدة في سداد ما عليها حتى جاء خبرها «في الميدان». وربما استغرب أهل الصحافة الآن مما نشرناه من بلدان جاء خبرها في كشف حال سمير كيف تسللت الميدان الى بنادر وقرى وأرياف لا هي في العير ولا النفير على أيامنا هذه. وكانت تلك عصا سمير. وكان لسمير جذرة أيضاً. فقد كان يطنب في الثناء على الرفاق المبادرين المحسنين في توزيع الجريدة. فقد نوَّه بأن كوستي اصبحت في المقدمة بعد العاصمة في التوزيع وحلت محل عطبرة. وكانت عطبرة قد سبق ووزعت أكثر من بورتسودان وكوستي والأبيض مجتمعة. واشاد بتصميم رفاق كوستي على تخطي عطبرة وقد فعلوها بتوزيع «4» اضعاف ما كانوا يوزعونه قبلاً مما يصح القول معه بإمكانية ذيوع الميدان فوق ما يعتقد البعض. وكانت مناسبات مثل الإحتفال بثورة اكتوبر الإشتراكية مناسبات لدفع عجلة توزيع الميدان. فقد جاء من حلفا على شرف هذا اليوم العظيم التزامها بإضافة «58» مشتركاً جديداً وهذه زيادة «85» في المائة من مجموع المشتركين لتلحق حلفا بركب المدن الأخرى في التوزيع. كما التزمت الفاشر بكسب خمسين مشتركاً للميدان.واستصرخ سمير الرفاق بمناسبة تغريم الميدان «150» جنيهاً او السجن «9» اشهر للمحرر أن يحزموا أمرهم ويسددوا حقها عليهم اولاً قبل ان يسألوا التبرعات من الناس. وهدد أن الميدان ستتوقف إذا استمرت هذه المعاملة القاسية البشعة لها. واستصرخهم أيضاً حين لاحظ تراخي مراسلو الميدان عن كتابة رسائل أقاليمهم. وقال لهم «خصصنا للأقاليم الصفحة الثانية لاتنقص ولا نصف عمود»، وقد احجمتم مما يستغرب من جريدة تناضل من اجل الشعب وتسعى لحل مشاكله التي هي اكثر من «الهم على القلب». وتحسر يوماً أن الميدان قد خلت من اخبار عطبرة مما يدخل في عداد الفضيحة لصحيفة تتوجه للعمال بشكل رئيسي. وكانت مهارة إدارة الأعمال عند سمير تتجلى في قيادته لتوزيع الأعداد الخاصة. فهذه الأعداد التي تصدر في مناسبات مثل عيد الاستقلال أو تحية ثورة أكتوبر الإشتراكية السوفيتية هي أداة لرفع وتيرة التوزيع والتبرع وبناء حلقات القراء. فقد صدر عدد خاص لدفع غرامة الميدان وآخر بالألوان من «24» صفحة خاص بثورة اكتوبر وثمنه خمسة قروش فقط. وحسابه حاضر لا ينتظر الى آخر الشهر. وسخر سمير من مفهوم الشهر عند الرفاق. فالمعلوم بالضرورة أن الشهر «30» يوماً أو «31» يوماً إلا عند موزعي الميدان ممن شهرهم قاطعنو من راسهم. وتوزيع العدد الخاص مما قد تحسدهم عليه صحافتنا الحالية بعد نحو خمسين عاماً. فقد وزعت مدني «800» نسخة منه ونفدت الكمية في ساعة مبكرة يوم وصولها. اما عطبرة المجيدة، في قول سمير، فقد وزعت «1850» نسخة. واضاف أن هذا رقم لم تصله جريدة سودانية في أي بلد من بلاد الأقاليم من قبل. كما ابتكر سمير استفتاء الميدان القراء عن مادتها ومطلوبهم منها. فقد طبع كبوناً في الجريدة يسأل عن معدل قراءتهم للجريدة وما يقرأه الواحد من مواد وما يعجبه وما لايعجبه وما يقترح اضافته. وعلى القارئ أن يقطع الكبون ويرسله الى الجريدة على ص. ب ، الخرطوم:850 كما كان سمير يسافر بنفسه للأقاليم لقيادة حملات التبرع للميدان مثل سفره لكوستي لجمع تبرعات لحروف مطبعة الميدان الجديدة بلغت «17» جنيهاً.
وكانت الميدان تفسح أبوابها لاستجابات القراء لنداءاتها. فقد قرأ السيد نقد محمد نقد خبر غرامة الميدان ساعة الفطور. وصمم على توفير قرش الشاي ليجمع «60» قرشاً في الشهر. كما تبرع تلميذات الأحفاد الوسطي بـ «138» قرشاً مقتطعة من حق الفطور. ونظمت ضاحية بري حفلاً لدعم صدور الميدان يومية ولم يوفق الأستاذ بقادي مندوب الجريدة لحضور المناسبة لأنه ضل الطريق اليها. وقد تقدم الرسام النور آدم بلوحة لاستاذنا عبدالخالق محجوب مهداة للميدان لتزين بها مكاتبها.
ولعل من أوقع ما قرأت من تجاوب القراء مع الميدان ما قام به الرفاق بمدينة كسلا. فقد أرسلوا طرداً من موز كسلا اب نقطة وبرتقال جنائنها لمحرري الجريدة وعمال مطبعتها لما سمعوا عن تأخر مرتباتهم. وارفقوا مع هذا الطرد عنقريبين مما اشتهرت به المدينة لزوم نوم محرري السهرة الذين علموا أنهم يفترشون الغبراء. وكان رقم بوليصة الشحن بالسكة الحديد هو 444729.وكانت إدارة تمويل الميدان على الملأ خطة سياسية بليغة. فقد كان سهلاً جداً اتهام الحزب الشيوعي، وهو صاحب الجريدة، بتلقي الدعم من السوفيت للرابطية التي بينهما. وقد كثر الحديث احياناً عن «اموال موسكو» التي تتدفق على الحزب. ولم يصدق ذوو النوايا الحسنة هذه الوشاية بفضل نشاطات مثل نشاط سمير. فقد رأوا قيادياً حزبياً واقفاً بالمرصاد تتسقط أذنه «رنة قرش» الميدان في المحيريبة وواو وحلفا والنهود والفاشر وأروما. وأزال سمير بهذا الضبط المالي، وعلى المكشوف، كل لبس عن عفة يد الحزب وصحيفته. وقد روى أخيراً السيد بابكر محمد علي، رئيس تحرير الميدان بعد المرحوم حسن الطاهر زروق، أنهم كانوا أجروا مبنى بالخرطوم مملوك لسيدة من بري. وكان يضايقها بالطبع تأخير الإيجار.(وقد كنت «أجرياً» (وهذه عبارة اهل بري في المؤجرين) في بري لسنوات طويلة وأعرف التباطوء في سداد الإيجار). وكانت كلما تأخرت الميدان عن الإيجار ضجرت صاحبة الملك وقالت: «إنتو وينو ريئسهم ابو صلعة داك». وتقصد استاذنا عبدالخالق محجوب. والبادي أن هذه البرجوازية قد عرفت بالتجربة أن الشيوعيين لايحثــون روبلات موسكو حثواً.
جاء سمير للمؤسسة الأهلية بخبرة في الضبط الإداري المالي تضعه على قدم المساواة مع رجال ونساء بنوا صروحاً للشعب. قشة قشة. وهذا هو اقتصاد «قدر ظروفك». وهو الإقتصاد السياسي النبيه للحركات التي اصلها في الشعب وفرعها في الوطن. ومن هؤلاء الشيخ ابوالقاسم هاشم الذي بنى المعهد العلمي بامدرمان وكادر مؤتمر الخريجين الذي بنى المدارس بالعون الأهلي والشيخ بابكر بدري الذي نهض بمدرسة الأحفاد حتى الأستاذ محمد عمر بشير الذي ترك فينا الجامعة الأهلية بامدرمان. وقد جاء أبوالقاسم بهذه الخبرة من ديوان المهدية الذي عمل به. وجاء بابكر بدري بهذه الدقة من عمله بالتجارة أو من جيناته الرباطابية. وقد وقفت خلال إقامتي بين الرباطاب عن كثب على حرصهم على مشروعات النفع العام وسدادهم الكثير. والقائمة بلا حصر فمنهم اخي عبدالله محي الدين بعطبرة والمرحوم ابو هدية بسنكات. وقس على ذلك.رحم الله سميراً ومن سبقه من جيله اليساري الذين تفانوا، حرفياً، لبناء صرح مجيد للسودان ولكادحيه مما يستضاء بهم في الليلة الظلماء التي اثقلت على العباد.

Friday, March 25, 2005

وعَلَى الأقْبَاطِ .. السَّلامْ

Sorry for posting the second article of Kamal ElGezouli before the first one... I will try to fix it later...
وعَلَى الأقْبَاطِ .. السَّلامْ 1ـ2
بقلم/ كمال الجزولى


إلى روح سمير جرجس .. فقد جاهد الجهاد الحسن،
أكمل السعي، حفظ الإيمان، وأخيراً .. وضع له إكليل البر

هزتنى كلمة شفيفة للكاتب الصحفى تاج السر مكى (الأيام ، 19/2/04) ، ينوِّه فيها بالنشاط الوطنىِّ والاجتماعىِّ البديع الذى ظلَّ يمارسه ، منذ حين ، المهاجرون السودانيون الأقباط بمدينة سدنى الاستراليَّة ، وعددهم ستة آلاف ، حيث شيَّدوا منتدى مفتوحاً لكل الجالية السودانيَّة هناك ، بكلِّ مِللها ونِحَلها وانتماءاتها الاثنيَّة والدينيَّة ، وأصدروا صحيفة أسبوعيَّة تعنى بأخبار السودان ، وتعرِّف بثقافاته المتنوِّعة ، وتطرح المشكل السودانى لحوار ديموقراطى واسع ، وتنشر ذكريات الكثيرين منهم فى الوطن عموماً ، وفى بعض مدنه كأم درمان وعطبرة بوجه مخصوص ، كما أسَّسوا إذاعة تبث برامجها السودانيَّة لمدة ساعة كل يوم.

ذكرتنى هذه الكلمة المنتبهة بما كان قال لى جوزيف لطيف صباغ ، عضو المكتب السياسى لحزب الأمَّة القومى ، عندما لقيته ، بالمصادفة ، واقفاً يضاحك ثلة من قدامى أصدقائه فى بهو الفندق الكبير بالخرطوم ، وقد عاد ، لتوِّه ، من مهجر بعيد كان لاذ به منذ خواتيم ثمانينات القرن المنصرم ، ضمن ظاهرة الأمواج المتلاطمة من هجرة السودانيين ، وقتها ، والأقباط منهم بالأخص ، فى عقابيل انقلاب الثلاثين من يونيو عام 1989م ، وسألته ، غير عامد بالطبع ، وإنما تحت وطأة حالة من الضجر السياسى تنتاب المرء أحياناً على غير إرادته: ما الذى أرجعك يا رجل؟! فإذا بعينيه تشعَّان ، وكل عضلة فى وجهه تختلج ، وهو يجيبنى بحماس ، وبحنجرة تغصُّ بحنين صادق: أقسم يا أخى أن يوماً واحداً فى السودان يعدل كلَّ تلك السنوات الضائعة!

إن أكثر ما يفرِّقنا ، حقاً ، هو الذى لا نجرؤ على الحديث عنه صراحة ، على قول سديد لفرانسيس دينج! وأكثر هذا الذى لا نجرؤ على الحديث عنه صراحة هو واقع الاستعلاء الجهير فى حمولة الوعى الاجتماعى العام فى بلادنا. فصورة (القبطى) فى الذهنيَّة (السالبة) للمستعرب المسلم المتوسط reasonable person فى السودان هى صورة (اللامنتمى)! ولهذا فقد يستغرب هذا المستعرب المسلم كلمة مكى وقول صبَّاغ ، بل وقد لا يُصدِّقهما أصلاً! ذلك أن أكثر ما تحتقن به ذهنيَّته السائدة هذه ، برغم مقت الاسلام للاستعلاء العِرقى ، هى أوهامه الفادحة perceptions عن (ذاته) ، باعتبار أنه هو وحده (ود البلد) ، وعن (الآخر) ، باعتبار أنه إما (حلبى) وإما (عبد) ، وكلاهما ، فى النهاية ، محض مُساكن عرَضىٍّ لا يؤبَّه به فى شأن الوطن ، ولا يُعوَّل عليه فى الملمَّات!
لا مرية ، بالطبع ، فى كون المسئوليَّة التاريخيَّة عن تغذية هذه النزعة العِرقيَّة والثقافيَّة المهمِّشة marginalizing (للآخر) فى الأوساط الشعبيَّة ، والتى يُصطلح عليها فى علم الأنثروبولوجيا (بالمركزويَّة الاثنيَّة) ، إنما تقع ، بالأساس ، على عاتق التيار (السلطوى/ التفكيكى) وسط نخب الجماعة المستعربة المسلمة السائدة ، لما تمتاز به هذه النخب من زاد معرفىٍّ يكرِّسه هذا التيار فى خدمة الطبقات الاجتماعية التى أفرزت هذه النزعة ، وأرادت لها أن تتخذ طابعاً شعبياً ، فتولى هذا التيار أدلجتها.
على أنه لا يمكن ، بالمقابل ، تبرئة التيار (العقلانى/التوحيدى) من مسئوليَّته التاريخيَّة فى عدم التصدِّى للظاهرة ، بما يكفى لنزع الأقنعة عن هذه الأيديولوجيَّة الزائفة ، وتعرية المسكوت عنه فى علاقاتنا الاثنيَّة ، من جهة ، ولتغليب ثقافة التسامح ، من الجهة الأخرى ، لا كمِنة يتفضل بها الأسمى على الأدنى toleration ، بل كقاعدة احترام تلقائىٍّ للآخر المختلف tolerance ، باعتبار أن ذلك هو الأساس الذى يجب أن تنبنى عليه الوحدة ، وطريق الخلاص الوحيد المتاح للأجيال القادمة من مأزقنا الوطنىِّ الراهن.
ولعلَّ ألزم ما يلزمنا ، فى هذا السياق ، هو أن ندرك ، ابتداءً ، وبعمق ، أننا ما نزال أمَّة تحت التكوين in the making. وأن الاستخدامات المجازيَّة لبعض المصطلحات الشائعة فى توصيفنا ، (كالشعب السودانى) و(الثقافة السودانيَّة) وما إليهما ، إنما تصادم ، فى الواقع ، حقيقة كوننا شعوباً متعدِّدة ، وثقافات متنوِّعة. فبقدر ما يشكل كل شعب وثقافة (ذاتاً) منسجمة فى منظور وعيه الهويوىِّ بنفسه ، يشكل أيضاً (آخر) فى منظور (الغير) المختلف ، مِمَّا يضع (التعارف) على رأس الشروط الأوليَّة اللازمة لجعل (اختلاف) هذه (الذوات) المتعدِّدة المتنوِّعة نعمة ، لا نقمة!
لكن عقدة (المركزويَّة الاثنيَّة) ، وغشاوة (الاستعلاء) التاريخى ، مع انعكاساتهما السالبة فى ذهنيَّة ووجدان (الآخر) ، أضرَّت كثيراً ، وما تزال ، بسلاسة هذا (التعارف) ، إلى درجة أن أحداً لا يستطيع ، إلا بالكثير من حُمرة العين ، أن يزعم ، اليوم ، وبعد كلِّ هذه القرون الطوال من التساكن المتوتر ، أننا (نعرف) بعضنا البعض ، بمستوى يجعل من اقرارنا بحقيقة (تعدُّدنا وتنوُّعنا) واقعاً حياتياً متعيِّناً ، دَعْ احترامنا لهما فى الممارسة التلقائيَّة ، لا مجرَّد الاكتفاء بوضعهما ، حلية زينة ، فى النصوص الدستوريَّة والقانونيَّة المُرائية ، على ضرورتها!
مع ذلك ، وعلى أهمية استبصار السوالب لأغراض حسن الاعتبار ، فإن القدر من التراكم الايجابى الذى وقع لنا حتى الآن ، بشق الأنفس ، فى هذا الاتجاه ، على نقصه وقصوره البائنين ، هو الذى يستوجب الدَّعم والتأكيد ، حقاً ، عن طريق تعهُّده بمقاربة حثيثة تسلط حزماً كثيفة من الضوء عليه ، وترُدُّ الاعتبار لحقائقه فى الثقافة والاجتماع والتاريخ ، وتجلى، بدأب وحدب ، ما قد يكون انطمر أو انطمس من هذه الحقائق فى الذاكرة الجمعيَّة بفعل خراقة السياسات التربويَّة والتعليميَّة والاعلاميَّة.
هذا الجانب الايجابىُّ ، ورغم ضجَّة الراهن المعلول بالسوالب ، هو الذى ينبغى أن نكِدَّ فى سبيل بقائه فى المدى القريب ، ورسوخه فى المدى المتوسِّط ، ثم الارتقاء به فى المدى البعيد، كى يصبح الأكثر وثوقاً فى تشكيل بنية الوعى الاجتماعى مستقبلاً ، والأكبر تأثيراً ، من ثمَّ ، على نسيج (السلام) المستدام و(الوحدة الوطنية) المأمولة.
وليس ثمَّة شكٌّ ، بادئ ذى بدء ، فى وشائج القيم الروحيَّة والأخلاقيَّة التى تشدُّ الاسلام والمسيحيَّة إلى بعضهما البعض ، بما يجعلهما متقاربين إلى حدِّ التطابق أحياناً. ففى منظومة قيم (السلام) ، مثلاً ، نجد المعنى المشترك بين تسمية الحق عز وجل لنفسه ، فى القرآن الكريم، "بالسلام" (23 ؛ الحشر) ، وبين تأكيد الكتاب المقدس بأن "الله هو إله السلام .. منه السلام وإليه السلام وبه السلام". كما نجد ، ولا بُدَّ ، نسباً روحياً وثيقاً بين اقتران هذه الدلالة السامية (للسلام) بقيم (العدالة الاجتماعية) فى قوله تعالى: "ونريد أن نمُنَّ على الذين استضعفوا فى الأرض ونجعلهم أئمَّة ونجعلهم الوارثين" (5 ؛ القصص) ، وبين بشارة الكتاب المقدس: "طوبى للودعاء لأنهم يرثون الأرض". وإلى ذلك أيضاً قول النبىِّ (ص) فى الحديث الشريف: "ليس منا من بات شبعاناً وجاره جائع" ، وقول عمر بن الخطاب (رض): "ولانا الله على الأمة لنسد لهم جوعتهم ، ونوفر لهم حرفتهم ، فإن أعجزنا ذلك اعتزلناهم" ، من جهة ، والمواعظ الكنسية التى تحضُّ حضاً ، من الجهة الأخرى ، على فضيلة "ألا يجوع واحد فينا بينما الآخر يتخم من الشبع .. ولا ينام أحدنا وهو جائع أو مظلوم". ولئن شدَّدت التعاليم الكنسيَّة عموماً على أن السلام يمنح (السعادة الكاملة) فى (العدالة) و(الرضا) ، فإن (العدالة الاجتماعيَّة) تشكل أيضاً أحد أهمِّ المقاصد الكليَّة للتعاليم القرآنيَّة ، حيث جعل الله (الانفاق) ، كوسيلة لإعادة توزيع الثروة ، من مطلوبات (التقوى) ، بل وساوى بين هذا (الانفاق) وبين (الإيمان) و(الصلاة): "ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين. الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون" (2 ـ 3 ؛ البقرة) ، كما وجعل (الانفاق) من أهم وجوه فعل (الخير) التى يجزى عنها بقوله: "يسئلونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل وما تفعلون من خير فإن الله به عليم" (215 ؛ البقرة). وطابق سبحانه وتعالى بين المفهومين القرآنيَّين (للخير) و(العمل الصالح): "والباقيات الصالحات خير عند ربك ثواباً وخير أملاً" (46 ؛ الكهف). وفى تفسير القرطبى عن ابن عباس أن (الباقيات الصالحات) هى كل (عمل صالح) من قول أو فعل.
وفى مستوى آخر ، ومع التسليم بإعلاء الاسلام لفضيلة العفو والصفح ، وحضِّ المسيحيَّة على "إدارة الخد الأيسر" ، إلا أن هذه القيم ذات الصلة الوثيقة (بالسلام) لا تتحقق بغير استيفاء أشراطها واستحقاقاتها الموضوعية. (فالعفو) لا يكون فضيلة فى الاسلام إلا بعد توفر شرط (القدرة) على نقيضه ، وتلك هى دلالة "العفو عند المقدرة". ومن الجهة الأخرى اجترح القس الجنوبافريقى ديزموند توتو فهماً عصرياً (للصفح) المسيحى فى ما أسهم به من معالجة لآثار التعانف التاريخىِّ المتطاول فى ذلك البلد بأسلوب (الحقيقة والمصالحة) ، استلهاماً لروح الكتاب المقدس ، بحيث لا يكون المطلوب (نسيان) الجراح ، بل (مداواتها). فالشرط الأساسى لتطبيق هذا الأسلوب هو حصول الضحايا على اعتراف صريح ، مستقيم وكامل ، مقروناً باعتذار علنى من جلاديهم ، فى ما يشبه طقس (التطهُّر الكنسى) ، أو ما يستوفى ، فى الاسلام ، شرط تعديل المواقف ، بحيث يصبح الضحايا فى موقف (القدرة) على أخذ جلاديهم باعترفاتهم ، فتنفتح الابواب ، بعد ذلك وليس قبله ، لاحتمالات العفو ، حين تطيب النفوس المكدودة ، ويسكن الألم الشخصى ، ولا تتبقى سوى الموعظة التاريخيَّة كضمانة معنويَّة قويَّة لعدم تكرار مثل تلك الممارسات مستقبلاً. ومن نافلة القول أن من يرفض ذلك لا يعود أمامه سوى المثول أمام المحكمة ، فى دولة يفترض فيها احترام القضاء المستقل ، كى ينهض حكم القسط على ساقيه وتأخذ العدالة مجراها.
وإذن فإن (السلام) لا يكون حقيقياً ولا مستداماً بغير توفر هذه الأشراط والاستحقاقات فى الاسلام والمسيحيَّة ، وهى أشراط واستحقاقات أبعد ما تكون عن مجرد (التسليم) المجانىِّ بالأمر الواقع.
وهناك أيضاً القاسم المشترك فى بعض وجوه التطبيق النموذجى السودانى بين العقيدتين ، حيث شكل حسن المعاملة ، بأكثر من جفاء التلقين ، مداخل المسيحيَّة إلى المجتمعات المحليَّة فى تاريخ السودان الحديث ، مثلما كان قد عبَّد نهجاً مرموقاً أيضاً للمتصوِّفة الأوائل فى نشر الاسلام فى البلاد ، بل وما زال يعبِّد ، حتى الآن ، طرقاً سالكة للمعاصرين منهم إلى قلوب الناس. ونسأل الله أن يسبغ رحمته ورضوانه على الشيخين الصالحين عبد الرحيم البرعى وعبد العال الادريسى اللذين روِّعت بلادنا بفقدهما مؤخراً ، كما نسأله ، جلَّ وعلا ، أن يردَّ غربة الشيخ الجليل حسن الفاتح قريب الله ، ليعود يرفل فى ثياب العافية بين أبنائه ومريديه الكثر ، فلطالما جعل الله أفئدة من الناس تهوى إلى رقائقهم ، أجمعين ، وحسن معاملتهم. وفى الحديث الشريف: "الدين المعاملة"، كما وفى الكتاب المقدس: "إذا اجتمع اثنان أو ثلاثة فأنا وسطهم" ، بمعنى عدم الاحتياج ، فى كل مرة ، لبناء كنيسة. والأمثلة كثيرة.
لكن (السلام) ، بطبيعته ، ليس محض قيمة معلقة فى مطلق فضائها العقيدى ، بقدر ما هو ساحة علاقات اجتماعيَّة ملموسة. والنصوص الدينيَّة لا تشتغل ، عملياً ، إلا عبر التركيبة الذهنية والنفسية التى تفرز تصوُّرات المؤمنين عن (الذات) و(الآخر) ، من خلال معاملاتهم تحت الظرف الاقتصادى السياسى والاجتماعى الثقافى المحدَّد. فلا يكفى ، إذن ، لأجل أيَّة مقاربة جادة لموقف هذه المجموعة الإثنيَّة/الطائفية أو تلك من قضية (السلام) ، محض الاقتصار على استذكار حمولة النصوص المقدَّسة من منظومات القيم ، فلا مناص ، بالتالى ، من مداخل أوثق صلة بالتصوُّرات التى تتمظهر فى السلوك العملى للمجموعات المختلفة من خلال ممارستها لعلاقاتها الاجتماعيَّة. وهى ، بالضرورة ، مداخل سوسيو ـ ثقافيَّة.

إن باب (التديُّن) السودانىِّ (بالمعاملة) يذخر ، قديماً وحديثاً ، بالكثير من النماذج المضيئة التى تستحق أن ترفع فى وجه (الاستعلاء) ، وأن يُهيأ لها الذيوع والانتشار ، لا فى بطون الكتب أو ذاكرة الحكائين ، فحسب ، بل وفى مناهج التربية والتعليم وأجهزة الاعلام ووسائط الاتصال الجماهيرى كافة.
من ذلك ، مثلاً ، أن الشيخ ادريس ود الأرباب ، عندما اعتزم ملك سنار مصادرة أراضى المسيحيين بعد تدمير سوبا ، أفتى بحرمة ذلك كون تلك الأراضى قد غصبت من المسيحيين ، رغم أنه كان موعوداً بنصيب فيها ، مما اعتبره ود ضيف الله فى (كتاب الطبقات) دليلاً على ورعه ، فكتب يقول: ".. ومن ورع الشيخ أن الملك بادى بن رباط .. جمع كبار الفونج مثل شوال ولد أنفله ونقى شيخ حوش داره وقال لهم شيخ ادريس شيخى وأبوى دارى من العسل إلى البصل باقسمها له النص فامتنع الشيخ وقال لهم هذه الدار دار النوبة وأنتم غصبتوها منهم أنا ما بقبلها الرسول قال من سرق شبراً من الأرض طوقه الله يوم القيامة به من سبع أرضين".
وما تزال الذاكرة الامدرمانية تختزن مأثرة (خلوة بولس) كملمح بليغ للتسامح الدينى ، وأثر شديد الافصاح عن عبقرية المكان. فقد نزح القبطىُّ الأرثوذكسىُّ بولس مع أسرته من صعيد مصر ليستقر على تخوم ود اب روف وبيت المال بأم درمان ، ولينشئ تلك (الخلوة) ذات المساقين: تعليم المسيحيَّة لأبناء المسيحيين ، وتعليم الاسلام لأبناء المسلمين ، علاوة على تقديم وجبة مجانية للجميع. وهكذا لم تحُل قبطيَّة بولس دون إلحاق الكثير من المسلمين أطفالهم بخلوته ، طوعاً ، وعن محبة وتقدير. وفى سلالتها نفر من مشاهير الشخصيات السودانية التى لعبت أدواراً مهمة فى شتى مجالات الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية فى البلاد ، كالدكتور وديع حبشى ، الخبير الزراعى العالمى والوزير السابق ومدير مشروع الجزيرة الأسبق وأول رئيس للنادى القبطى عند تأسيسه فى 1978م ، والسيد نجيب يسا ، مدير مصنع سك العملة الأسبق وسكرتير نادى المريخ الأسبق.
ويروى حسن نجيلة ، فى (ملامح من المجتمع السودانى) ، واقعة أخرى ، من الحقبة الاستعماريَّة ، عن الشاعر القبطى صالح بطرس الذى استفز وطنيَّته تطاول العهد بمسجد أم درمان الكبير وهو ناقص البناء ، منعدم المئذنة ، والتبرعات ما تنفكُّ تجبى له فى كثير من البطء ، فأنشأ قصيدته الشهيرة: "يامسجداً مطلت بنوه بعهده" ، والتى كان لها أثر كبير فى إشعال الحماس للاكتتاب حتى اكتمل البناء. وهكذا أيضاً لم تحُل قبطيَّة بطرس دون أن يرى ، بعين بصيرته ، فى الانشاد لأجل إكمال بناء مسجد أم درمان الكبير عملاً (وطنيَّاً) يحبه الله. والنص الكامل للقصيدة منشور ضمن كتاب سعد ميخائيل ، القبطىِّ هو الآخر ، والذى أصدره عام 1925م ، للتعريف بالحركة الشعريَّة فى البلاد ، أوان ذاك ، تحت عنوان: (شعراء السودان) ، مسلمين ومسيحيين على السواء.
(نواصل)


24 فبراير 2005

سمير جرجس: الدبارة

سمير جرجس: الدبارة
د. عبدالله علي ابراهيم
الصحافة 22 مارس 2005


قرأت كلمتين مؤثرتين في محاسن فقيد الوطن المرحوم سمير جرجس، لكل من الأستاذين كمال الجزولي والسر مكي أبو زيد. وقد استصفيا في الفقيد وقوفه رمزاً على السماحة السياسية التي سلفت في الخمسينات والستينات. وهي سماحة جعلت منه، وهو من الأقلية القبطية والدينية بمكان، كادراً سياسياً مرموقاً في حركة اشتراكية اجتماعية لغمار الناس. وقد نبه الجزولي الى فضل الأقباط عامة في تعليم غيرهم من المواطنين حِرفاً اقتصرت عليهم من قبل. وأردت في كلمتي هذه في نعي الراحل العزيز أن اتنزل بكلمة الجزولي من عمومها القبطي الى ما لقنه سمير شخصياً لرفاقه في الحزب الشيوعي حين تولي إدراة تحرير جريدة «الميدان» لدورتين من دورات صدورها في العلن وهي الفترة 1954م الي 1958م ومن 1965م الي 1966م. ولم يكن سمير ضمن أسرة تحرير «الميدان» في الفترة الثالثة (1985-1989م) لخروجه عن الحزب الشيوعي في ملابسات انقلاب مايو 1969م. وسيقتصر حديثي على الفترة الأولى بالنظر الى توفر بعض أرشيف جريدة «الميدان» لتلك الدورة بطرفي.
جاء سمير الى «الميدان» بخبرة أهله الأقباط في الدبارة وإدارة الأعمال. وكان مدير تحرير ومديراً مالياً في وقت واحد. بل ربما غلب الدور الأخير على الأول. والسبب في ذلك أنه علم بالطبع انه سيدير جريدة لحزب كادحين لا منعم يجري رزقها عليها أو سوق إعلان تغنيه تكفف الناس. وأصبحت تبعة سمير ان يستولد ما سينفقه على الجريدة من عضوية حزب أكثره غلابى وتنوشهم اشكال من «المقويات» (كما كان يعرف اشتراك الحزب الشيوعي) بلغت في يوم من الأيام خمسة في المائة من مرتب العضو متى صدق. ويروى عن هذا الهم المالي للشيوعي أن زميلاً جديداً حضر اجتماع خليته لأول مرة. وسمع من المسؤول السياسي المطالب المالية عليه من مقوي وتبرع للميدان واشتراك فيها وهكذا. واستهول الزميل هذه التكلفة العالية لعضوية الحزب. ولما جاء وقت سؤاله عن اسمه الحركي. قال: «اسمي الحركي مرهج» وكان مرهج هو واحد من أشبع تجار الخرطوم. والحال على ما هو عليه لم يكن بوسع سمير ان يدير المجلة من وراء حجاب بل على مسمع ومرأى من القراء، يطلعهم علي صحة الجريدة أولاً بأول. ورتب لذلك باباً اسمه «من الميدان» يدير به مهمته الجامعة للتحرير والتمويل. ويظهر اسم الباب على صورة لرجل بجلابية وعمة يقرأ في صحيفة وعلي الخلف منه منزل وشجرة.
كانت صورة سمير لصدور الجريدة أنها عملية ولادة. أي أنها تنبثق من حب خالص وعطاء خصيب. وكان يستبطيء المطبعة، الأم، أن تضع حملها في ما رواه عن صدور عدد خاص للميدان ذات مرة. وننقل كلمته هذه في صندوق مصاحب لهذا المقال. وبلغ من هذا الاستبطاء حداً أنه ضرب في رأسه يوماً الوقت الذي ستأخذه مطابع السودان للفراغ من طباعة عدد واحد من اعداد جريدة البرافدا السوفيتية. فقد قال إن رئيس التحرير، السيد بابكر محمد علي، قد أطلعه مرة علي التوزيع اليومي للبرافدا. وهال سمير الرقم وخلص من تضريباته الى أن مطابع السودان الدائخة ستأخذ ستة اعوام كاملة لطباعة ما توزعه برافدا في اليوم وقال: «كم نحن متأخرون».
وكان «من الميدان» باباً تربوياً للشيوعيين. ولم تكن التربية شاغلاً حزبياً مخصوصاً الإ ما تسرب من باب السياسة تسريباً. ومن دلائل ذلك أن مصير كتاب تربوي مثل «إصلاح الخطأ في العمل الجماهيري» الذي كتبه استاذنا عبد الخالق محجوب ما يزال بعيداً عن تهذيب الشيوعيين برغم صدوره في الستينات الأولى. فلم يكن بوسع سمير او الجريدة ان تخفي مآزقها المالية من القراء المناضلين كما يفعل الكادر السياسي الزاهد تحت الأرض. وهي زهادة بمثابة الاستشهاد المؤجل جعلت لهم هالة قداسة عند الرفاق سلطتهم على الرقاب إلا من استحب الخير والتواضع. غير ان الهالة لا تبقي الإ الى حين يضجر منها الرفيق الزاهد ويهجر الحزب. وكان سمير تربوياً عالي الصوت، كان يضيق بتقاعس موزعي الجريدة من الشيوعيين. وغضب مرة قائلاً في الباب: «ليس هناك جريدة في الكرة الأرضية تعامل بواسطة موزعيها كما تعامل الميدان». وأتبع ذلك بقائمة مدن لم تسدد ديونها للجريدة مثل طابت 12 جنيها وجوبا 4 جنيهات والنهود 14 جنيها. واقترح أن تمنح لمدني وبورتسودان جائزة «الإهمال الذهبية» لمبالغتهما في تراكم الاشتراكات والمتأخرات المزمنة. وأنذر مدني بقطع الجريدة من العدد القادم إن لم تسدد ما عليها. وارسل تحية الى عطبرة وواو وشندي وملكال لاهتمامهم بـ «الميدان». وألزم بورتسودان لاحقاً أن يدفع مشتركو الجريدة مقدماً. وبالفعل نشر مكتب «الميدان» بالثغر اعلانا بالمعني. ونتطرق لجوانب اخرى من بركة سمير على جريدة «الميدان» في كلمة أخيرة قادمة.

صندوق
الخميس الماضي:
بقلم سمير جرجس
من عدد صادر في نحو 1957م

كانت الولادة متعثرة ولكن خرج الجنين قوياً جميلاً
ضحكات عصبية ونوم فوق التروس
1850 رقم لم تصله مدينة إقليمية من قبل في تاريخ الصحافة السودانية
مع بداية الليل مساء الأربعاء الماضي توكلنا علي الواحد القهار نحن الأربعة عبد الحميد ونقد وسليمان علي واخوكم (المدير)، ألي هو أنا، وسرنا نحو المنطقة الصناعية نحمل الكميات التي طبعت من عدد «الميدان» الخاص لنذهب بها الي مطبعة مصر حيث يطبع الغلاف ويدبس ويجلد العدد ويعد للارسال للأقاليم. هناك في مطبعة مصر كانت ولادة العدد جد متعسرة. عديد من الماكينات تعمل وتصرخ ولكن الكميات المطلوبة تخرج ببطء قاتل. واخونا عبد الحميد كان منتشياً بعض الشيء فغافلنا ورقد علي احدى الماكينات فوق التروس واخذ تعسيلة ظبط وكان كالفقير الهندي الذي يأخذ راحته عندما ينام فوق المسامير.
استمر العمل اكثر من عشرين ساعة دون توقف، على الرغم من ذلك لم نستطع أن نلحق ببعض القاطرات والطائرات.. والمرجو من الأصدقاء تقدير الظروف.
وفي مساء الخميس خرجنا من مطبعة مصر نحمل عدد «الميدان» (وشحناه) في عربة وجلست بجنبه أتأمله، فخلقت في ذاكرتي صورة أمي عندما توشك أن تلد لنا أخاً صغيراً.. وكيف كانت تظل تصرخ ولكن ما أن يخرج أخي الصغير الى الدنيا حتى تضع يدها عليه وتبتسم.. هكذا كان حالنا.
كلمة أخيرة من عطبرة المجيدة.. تعلمون كم نسخة وزعت من العدد: «1850» نسخة. وهذا رقم لم تصله جريدة سودانية في أي بلد من بلاد الأقاليم من قبل.
سمير


وعَلَى الأقْبَاطِ .. السَّلامْ -2
بقلم/ كمال الجزولى

مساء الخميس 24/2/05 شهدنا القدَّاس على روح الفقيد سمير جرجس بكنيسة العذراء بالخرطوم ، حيث وصفه أبونا فيلوثاوس بأنه زعيم قبيلة الأقباط السودانيين. ومن هناك شيعناه إلى مثواه الأخير ، وكنا خلقاً كثيرين من شتى ملل ونحل البلاد ، فعلق محمد على المحسى بأن ذلك يشـبه سميراً تماماً. وكان هزنى ، قبل يومين من ذلك ، ما أورد تاج السر مكى (الأيام ، 19/2/04) عن إنشاء المهاجرين الأقباط السودانيين بسدنى الاستراليَّة منتدى مفتوحاً لكل الجالية السودانيَّة ، وإصدارهم صحيفة أسبوعيَّة تعنى بأخبار الوطن وثقافاته ، وتأسيسهم، إلى ذلك ، إذاعة تبث ساعة كل يوم ، فتذكرت ما كان قال لى لطيف جوزيف صبَّاغ ، حين عاد من هجرة قسريَّة طويلة: "أقسم يا أخى أن يوماً واحداً فى السودان يعدل كلَّ تلك السنوات الضائعة"!
وفى الحلقة الماضية أشرنا إلى أن أخطر ما يفرِّق بيننا هو الاستعلاء المسكوت عنه فى حمولة الوعى الاجتماعى ، ومن تجلياته الفادحة لدى الذهنيَّة (السالبة) للمستعرب المسلم المتوسِّط مماهاته الفظة بين صورة (القبطى) وصورة (اللامنتمى)! ولهذا رجَّحنا أن يستغرب كلمة مكى وقول صبَّاغ معاً ، بل وألا يُصدِّقهما أصلاً! فما يزال يركن ، رغم مقت الاسلام للاستعلاء العِرقى ، إلى وهمه الفاره perception عن (ذاته) ، بأنه هو وحده (ود البلد) ، أما (الآخر) فإما (حلبى) وإما (عبد) ، وكلاهما مُساكن عرَضىٌّ لا يؤبَّه به ولا يُعوَّل عليه!
وقلنا إنه ، وبقدر ما يتحمَّل التيار (السلطوى/التفكيكى) المسئوليَّة التاريخيَّة عن تغذية هذه النزعة المهمِّشة (للآخر) marginalizing ، يتوجَّب تحميل التيار (العقلانى/التوحيدى) ، بالمقابل ، مسئوليَّته عن عدم التصدِّى للظاهرة بما يكفى لنزع أقنعتها الأيديولوجيَّة الزائفة. بغير ذلك يضحى شأننا كمن يحشو الجراح بالتبغ ، ليتراجع حتى الأمل فى تغليب ثقافة التسامح كقاعدة احترام تلقائىٍّ للآخر tolerance ، لا كمِنة يتفضل بها الأسمى على الأدنى toleration. وشدَّدنا ، فى هذا السياق ، على أن ألزم ما يلزمنا الاقرار به ، ابتداءً ، هو افتقار مكوِّناتنا الاثنيَّة (للتعارف) الذى يشكل أهم الشروط الأوليَّة لجعل (اختلافنا) نعمة لا نقمة!
مع ذلك ، ورغم ضجَّة الراهن المعلول بالسوالب ، فإن القدر من التراكم الايجابى الذى وقع لنا ، بشق الأنفس ، هو ما يستوجب التأكيد عليه ، وإجلاء حقائقه المطموسة فى الذاكرة الجمعيَّة بفعل خراقة السياسات المعتمدة منذ الاستقلال. وقد عرضنا ، فى هذا الاتجاه ، لمنظومتى القيم المتقاربة فى الاسلام والمسيحيَّة بشأن (السلام) خصوصاً. لكننا استدركنا على أن (السلام) ليس محض قيمة عقيديَّة ، بل وساحة علاقات اجتماعيَّة. فالنصوص لا تتمظهر ، عملياً ، إلا عبر (معاملة) المؤمنين (للذات) و(للآخر) تحت الظرف الاقتصادى السياسى والاجتماعى الثقافى المحدَّد. ولهذا رأينا ضرورة إبراز بعض النماذج التاريخيَّة المضيئة فى باب (التديُّن) السودانىِّ (بالمعاملة) ، نصفع بها وجه (الاستعلاء) ، ونهئ لها الذيوع فى مستوى الوعى الاجتماعى العام.
من ذلك ، مثلاً ، تحريم الشيخ ود الأرباب مصادرة الملك بادى لأراضى المسيحيين النوبة بعد تدمير سوبا ، مِمَّا عدَّه ود ضيف الله دليلاً على ورعه ، ومأثرة (بولس) القبطىِّ الماجد الذى أنشأ بأم درمان (خلوة) تعلم المسيحيَّة لأبناء المسيحيين ، والاسلام لأبناء المسلمين ، وتقدِّم وجبة مجانيَّة للجميع. وذكرنا من سلالته وديع حبشى ونجيب يسا وغيرهما مِمَّن لعبوا أدواراً مرموقة فى تاريخنا الاجتماعى. كما نوَّهنا بفضل الشاعر القبطىِّ صالح بطرس فى الحث على الاكتتاب لإكمال مسجد أم درمان ، أيام الاستعمار ، بقصيدته الشهيرة (يا مسجداً مطلت بنوه بعهده) ، وبالقبطىِّ الآخر سعد ميخائيل الذى أصدر ، عام 1925م ، مختاراته الباكرة (شعراء السودان) ، مسلميهم ومسيحييهم على السواء. وفى ما يلى نواصل:

***
والواقع أن للمسيحيَّة ، عموماً ، أثرها العميق الماثل فى الكثير من الثقافات السودانيَّة ، والذى ظلَّ يتحدِّر إليها من العصور القديمة ، حتى يوم الناس هذا ، مِمَّا تعهَّده الأب الدكتور جيوفانى فانتينى بالرصد والتقصِّى فى مؤلفه القيِّم (تاريخ المسيحية فى الممالك النوبية القديمة والسودان الحديث).
من ذلك ، على سبيل المثال ، حرص الأهالى من المستعربين المسلمين فى أغلب المناطق النيليَّة بين وادى حلفا والخرطوم على ممارسة طقس أربعين المولود الجديد ، حيث تحمله الأم إلى النهر ، ترافقها زفة من النساء يغنين ويزغردن ويلوِّحن بأغصان النخيل ، فتغسل وجهها ويديها ورجليها ثم تفعل الشئ نفسه للوليد. ولهذه الممارسة أصل فى ما يعرف عند المسيحيين بعماد الطفل بالغطاس ، وفى تقليد أربعين الولادة كما رسمه (سفر اللاويِّين) ، وما يزال متبعاً فى بعض الكنائس الشرقيَّة بمصر وأثيوبيا ، وربما أدمجت فيه طقوس مسيحيَّة أخرى كطقس (دخول الوالدة إلى الكنيسة).
وشبيه بهذا طقس (ماريا) ، بعد الولادة بيومين أو ثلاثة ، حيث تحمل القابلة الوليد فى زفة مماثلة ، فى بعض قرى النوبيين (الحلفاويين والسكوت والمحس والدناقلة) ، وتحمل امرأة أخرى طبقاً مصنوعاً من الأعشاب توضع فيه أدوات التوليد ، ونفايات البيت ، وقرص من الخبز ، فيرمى هذا الطبق بمحتوياته فى النهر. ثم بعد الفراغ من عملية غسل وجه ويدى ورجلى الوليد ، أو تغطيسه فى الماء مع ترديد عبارة "أغطسك غطاس حنا" ، تبركاً بيوحنا المعمدان ، تعود الزفة بشئ من ماء النهر ليحفظ فى البيت بضعة أيام قبل دلقه. وأصل هذا التقليد موجود فى طقس رتبة المعموديَّة ، وفى نقل المسيحيين بعض الماء المبارك لحفظه فى البيوت.
ويُضحَّى فى مثل هذه المناسبة بذبيح لا يكسر منه عظم. كما يُطبع على جدار البيت رسم كفٍّ مغموسة فى دم الضحية. ويرى الأب فانتينى فى ذلك أثراً من ذبح الحمل الفصحى عشيَّة الفصح المجيد كما ورد فى العهد القديم. ونرى فيه أثر الذبح عقب صلاة عيد الأضحى المبارك عند المسلمين ، مع بعض التحوير. ونضيف ، أياً كان الأمر ، أن (كفَّ الدَّم) هذه ما تزال تطبع طلباً للبركة ، وأكثر ذلك على أبواب العقارت والسيارات المشتراة حديثاً.
وفى بعض قرى الشمال يستدعون طفلاً حسن الأخلاق ، ويجعلونه يمضغ بعض التمر قبل أن يطلبوا إليه مس شفتى الوليد بلسانه ، أملاً فى أن تنتقل إليه الأخلاق الحميدة مع حلاوة البلح. وفى هذا أيضاً أثر من التقليد الكنسى الذى يُطلب بموجبه عرَّاب (أشبين) لمعموديَّة الوليد يضمن له تربية مسيحيَّة حال وفاة والديه أو غيابهما. وفى حال تعسُّر الولادة فى بعض قرى النوبيين تستغيث النساء ابتهالاً ، باللغة النوبيَّة ، لماريا (السيدة العذراء) لتيسير الأمر على الأم.
وقد لفت السيد ابراهيم احمد الانتباه ، ضمن إصدارة (السودان فى رسائل ومدونات Sudan Notes and Records) ، عام 1938م ، إلى أن الأطباق التى يزيِّن بها النوبيون واجهات منازلهم لإبعاد (العين الشريرة) تشكل ، فى حقيقتها ، إشارة الصليب.
كذلك يرسم أهل المصاب بمرض خطير ، فى بعض مناطق جبال النوبا ودارفور ، إشارة الصليب بزبل البقر على صدره. وإذا ذهبت أم بطفلها إلى مكان لم يزره من قبل ، ترسم على جبينها وعلى جبين الطفل إشارة الصليب ، ويسمونه (برشام) فى بعض لغات الفور (السودان فى رسائل ومدونات ، 1928م). ويشمل احتفال الزفاف عند بعض الفور ذبح ضحية ، وقيام شيخ القرية برسم إشارة الصليب بدمها ، أو ببعض الدهن ، على جبينى العروسين ، فى طقس أشبه (بحفلة الاكليل) عند المسيحيين. ويعاد هذا الطقس على العروسين عندما يرزقان بطفل. وفى اليوم السابع للولادة ، عند بعض الفور أيضاً ، ترسم إشارة الصليب بالكحل على جبين الوليد. وتمارس بعض قبائل جنوب النيل الأزرق طقس رسم إشارة الصليب بفحم الحطب على جبين الوليد ، وبالتراب على صدور الفتيان المرضى أو المصابين بالاعياء.
واستطراداً فإن مستعربين مسلمين كثر اعتادوا ، دون أن يستشعروا أدنى تعارض بين معتقداتهم الدينيَّة وبين هذه الترميزات الثقافيَّة ، أن يعلقوا تميمة (المشاهرة) على الحائط مباشرة فوق رأس الأم النفساء طوال مدة رقادها ، والصليب مكون أساسى فى هذه التميمة.

***
أما فى العصر الحديث فإن للجماعة القبطيَّة الأرثوذكسيَّة ، تحديداً ، فى بلادنا ، مثلما للطائفتين المسيحيَّتين الأخريين: الكاثوليكية ، صاحبة الكنيسة الأقدم ، والبروتستانتيَّة (الانجيليكانيَّة) ، وجود لا تنكره العين إلا من رمد فى الشمال والوسط وبعض المناطق فى الغرب ، كجبال النوبة وغيرها.
ويعود تاريخ بروز الأقباط الأرثوذكس ضمن التركيبة الاثنيَّة فى السودان إلى ما قبل الحقبة الاستعماريَّة بعقود طوال. غير أن الفترة الممتدَّة من بواكير القرن الماضى شهدت تزايداً ملحوظاً فى تعدادهم ، وكثافة غير مسبوقة فى وجودهم كجماعة متميِّزة. فعلى الرغم من أن الادارة الاستعماريَّة كانت قد حظرت تبشير الكنيسة الأرثوذكسيَّة فى الجنوب ، لأسباب سياسية متجذرة ، بالأساس ، فى عدم رغبتها فى تمدُّد النفوذ المصرى إلى تلك البقاع ، وقصرها السماح بالنشاط التبشيرى على الكنيستين الأخريين ، إلا أن احتياجها للكوادر المصريَّة المدرَّبة أجبرها على استقدام أعداد كبيرة منهم ، وجلهم من الأقباط الأرثوذكس ، من صعيد مصر بالذات ، للاستقرار والعمل فى سلك الادارة ، والحسابات ، والتجارة ، وورش ومحطات السكة حديد ، فى الخرطوم ، وعطبرة ، وبورتسودان ، والأبيض ، والنهود ، وشندى ، وغيرها من مناطق الانتاج الحديث.
ما لبث هؤلاء أن جعلوا من نقل شتى المعارف إلى الأهالى ، فى مختلف ضروب الصنائع وسبل كسب العيش ، مدخلهم إلى المجتمعات المحليَّة ، حيثما استقرُّوا. فعكفوا على تعليم الناس فى قاع المجتمع شتى المهارات فى الميكانيكا ، والبناء ، والنجارة ، والحدادة ، والأعمال الكتابيَّة والمحاسبيَّة. وكان طبيعياً أن يشكلوا ، مع الزمن ، تياراً متميِّزاً فى نهر الثقافات السودانيَّة العريض. فتعاطوا ، بشكل إيجابىٍّ ، مع البيئات المختلفة ، يسترفدونها ثقافة الأزياء ، والزينة ، والأطعمة ، والجوار ، وتقاليد الأفراح والأتراح ، وطقوس رمضان ، والمولد النبوىِّ الشريف ، وعيدى الفطر والأضحى ، ويرفدونها ، بالمقابل ، بما فى أيديهم من ثقافة الأزياء ، والزينة ، والحلى ، والاحتفاليات العائليَّة ، والمعاملات التجاريَّة ، والمطبخ الشرقى ، وشمِّ النسيم ، وعيد الميلاد المجيد ، وما إلى ذلك.
هكذا ظلت (القبيلة القبطيَّة) تواصل أداء دور مهمٍّ لا غنى عنه ، بل وريادىٍّ فى كثير من الأحيان ، منذ مطالع القرن الماضى ، على صعيد الترسيخ العملى لقيم (السلام) و(التسامح) و(الوحدة). كما ظلت لها مساهماتها الواضحة فى شتى حقول النشاط المدنى. فالمكتبة القبطيَّة التى تأسَّست عام 1908م تعتبر أقدم مؤسسات المجتمع المدنى فى البلاد ، وتحتوى على نحو من عشرة ألف كتاب فى مختلف حقول المعرفة ، علاوة على ثروة من الوثائق النادرة ، وعضويَّتها مفتوحة لكل السودانيين. ومِمَّا يجدر ذكره أن لائحتها قد عُدِّلت ، مرَّة ، لإهداء ستة مجلدات من مخزونها القيِّم لدار الوثائق القوميَّة. وقد عثر المؤرخ يونان لبيب رزق بين هذه المجموعة ، بمساعدة العالم الراحل أبو سليم ، على الوثيقة الأساسيَّة التى أمكن بموجبها حسم التحكيم الدولى حول (طابا) لصالح مصر ضد إسرائيل. كما وأن وزارة الثقافة المصريَّة تزوَّدت من أرفف هذه المكتبة ، بعد ثورة 23 يوليو 1952م ، بنسخ نادرة أعادت طبعها من (أصل الأنواع) لشبلى شميل ، و(حرب النهر) لونستون تشيرشل ، و(عشر سنوات فى أسر المهديَّة) للأب جوزيف أوهلدر ، بعد نفاد طبعاتها الأولى التى كانت قد صدرت من مطبعة بولاق بالقاهرة فى أوائل القرن الماضى.
ومنذ فجر الحركة الوطنيَّة ظلت دوائر الأحزاب السياسيَّة ، كجزء من مؤسَّسات المجتمع المدنى ، تضمُّ ، عبر مختلف الفترات ، رموزاً قبطيَّة ناشطة بين قياداتها وقواعدها ، كتادرس عبد المسيح (عضو مجلس الشيوخ سابقاً) وجوزيف صبَّاغ وإبنه لطيف فى حزب الأمة ، ووديع جيِّد وعبد الله النجيب وحنا يسَّا البيباض فى الاتحادى الديموقراطى ، وموريس سدرة وسمير جرجس وميشيل اسطفانوس وجرجس نصيف فى الحزب الشيوعى ، على سبيل المثال لا الحصر.
ضف إلى ذلك كله كيانات ومؤسسات النشاط الاجتماعى للأقباط الأرثوذكس ، كالنادى القبطى وجمعيات أصدقاء الكتاب المقدس وما إلى ذلك.

***
فى خلفيَّة هذه الحقائق وغيرها تتجلى المفارقة المأساويَّة بوضوح حين ننظر اليوم فى ما انتهى إليه هذا الحضور الريادى ، فلا نجد ، إلا فى ما ندر ، غير ضعف مشاركة المجموعات المسيحيَّة فى الحياة العامة ، بل غيابها شبه التام عن أنشطة المجتمع المدنى ، وانزوائها الكامل كما الجاليات المعزولة! وقد لا يحتاج الباحث إلى كبير عناء ليعود بتاريخ هذه الظاهرة إلى أواخر سبعينات وأوائل ثمانينات القرن الماضى. وهى الفترة التى شهدت بداية الارهاص الجدى بتدشين مشروع الدولة الدينيَّة الذى أنجز أولى حلقات تمظهره الكيفى بإصدار وتطبيق قوانين سبتمبر 1983م باسم الشريعة الاسلاميَّة ، ثم عاد لاحقاً إلى مراكمة عناصر حركته بذات الاتجاه فى ظل الظروف التى تمخضت عنها الانتفاضة الشعبيَّة بين أبريل 1985م ويونيو 1989م ، حيث استكمل خطوته التحويليَّة نحو حل قضيَّة السلطة عن طريق الانقضاض المسلح على الديموقراطيَّة الثالثة.
صحيح أن الأقباط شهدوا ، خلال تلك الفترة ، من عنت المعاش والثقافة والاجتماع ، ما لم يشهدوا طوال قرن بأكمله ، بما فى ذلك التشريد الذى طال أندر كفاءاتهم فى سلك الادارة والمصارف وخلافه. ولكن الصحيح أيضاً أن المسلمين أنفسهم أضيروا ، ربما بأكثر من المسيحيين ، من مشروع التيار (السلطوى الاستعلائى). وليس سوى مكابر من ينكر أن هذا المشروع لم يعدم مساندة مسيحيين بين الجنوبيين الكاثوليك والأقباط الأرثوذكس. كما وليس سوى مكابر من لم يلمح ، فى ملابسات الحرب التى جرى تصويرها على أساس دينى ، كيف أن المسلم قد قتل بيد المسلم ، والمسيحى بيد المسيحى. لذلك ينبغى الكف عن الترويج للمشكلة كما لو كانت قائمة بين المسيحيين ، بمن فيهم الأقباط ، ككتلة متجانسة ، وبين المسلمين ككتلة متجانسة مضادة.
إن فضل (اتفاق السلام) الذى أبرم مؤخراً بين نظام الانقاذ وبين الحركة الشعبيَّة/الجيش الشعبى لتحرير السودان ، لا يعدو ، حتى الآن ، فضيلة إسكات البنادق ، أما كل ما عدا ذلك، كتعميق الديموقراطية ، واعتماد عدالة التنمية الشاملة ، ونبذ الاستعلاء بالدين أو الثقافة أو اللغة أو العرق أو خلافه ، فهو مِمَّا لن يتحقق بغير الضغط الحثيث من المجتمع المدنى. وغافل من يكِل عمل المجتمع المدنى إلى الدولة!
ولعلَّ أهمِّ مهام المجتمع المدنى ، فى هذا الاطار ، الدفع باتجاه ترميم اطمئنان كلِّ التكوينات الاثنيَّة بالوطن ، بمن فيهم قبيلة الأقباط الأرثوذكس ، واستعادة دورهم فى ساحات النشاط الاجتماعى العام. وأوجب ما يجب الانتباه إليه على هذا الطريق إزاحة العقبة التى يشكلها الاستعلاء ، فلولا ميراث الاستعلاء البغيض ، لما أضحى فضل الثقافة العربيَّة الاسلاميَّة فى السودان مجحوداً إلى هذا الحدِّ من التعانف حولها ، ولما احتاج ، بنفس القدر ، فضل الأثر المسيحى فى حياتنا ، وتحديداً القبطى الأرثوذكسى ، لمن يؤكده ، لا بكلمة تاج السر مكى ، ولا بمقالتى هذه.

26 مارس 2005

Wednesday, March 09, 2005

سمير جرجس

أضواء / الثلاثاء
تاج السر مكي

سمير جرجس مسعود (فارس ترجل من صهوته فاترعنا حزناً) في هجير الشمس وغيظ الحر وعربة هالكة قد استأجرناها بجهد فائق، تئن تارة وتتقافز اخرى على الطريق الترابى غير المعبد بين العاصمة الخرطوم ومدينة ودمدنى حاضرة الجزيرة وعلى الطريق التقانا في ارض فضاء مسافر يحمل حملاً ثقيلاً، لم نتمعن في وجهه كثيرا فوقفته في ذاك المكان الغفر المغبر اغنتنا عن ذلك، فقد كنت وصديقى معتصم احمد حسين نتوقع امراً كلفنا به تكليفاً حزبياً وحدوثه قد يبرر كل ذلك الجهد الذى بذلناه لاستئجار تلك الشاحنة وهى تحمل عبوات من الزجاج الفارغ .. وعند اول منعطف بقرب احد سندات المحلى (القطار القشاش) الذى يتنقل عبره مزارعو الجزيرة بين قراهم العديدة، عند ذلك المنعطف سمعنا ذلك المسافر يقول لنا (سمير جرجس، مع تحياتى الى مديرية الجزيرة) واختفى سريعا خلف (السندة) ووجدنا انفسنا نتعامل مع ذلك الحمل الثقيل، وقد كان ماكينة (رونيو) كنا مكلفين بايصالها الى قيادة العمل بالجزيرة وهناك التقينا بمحمد ابراهيم نقد المسؤول الاول في المنطقة .. وكانت ثورة اكتوبر تدق ابوابها باصرار الجماهير.سمير جرجس (الخواجة) كما يحلو لاصدقائه مناداته بذلك، ظل ذكرى مستمرة وواقع نرى من خلاله السودان بمنظار شفيف وبأفق انسانى وعرفنا عنه الكثير من البطولات الاسطورية .. كان هنالك بالطبع الاعتقال التحفظى وهو كما معروف انتهاك صارخ لحقوق الانسان وعندما تكون هنالك فرصة لتقديم اي موقوف رأى للمحاكمة امام محكمة طبيعية يتباهى حكام الدولة الشمولية بذلك لكن اذا ما حكم عليه بالبراءة فسرعانما يعيدونه الى الاعتقال التحفظى وقد حدث ذلك مع المرحوم سمير لكنه اختفى في نهاية المحكمة التى قالت ببراءته وظل مختفياً يقوم بكل واجباته الوطنية والحزبية ومنها ما التقانا به في تلك الرحلة الشاقة في اكتوبر.سمير جرجس مدير تحرير جريدة الميدان وهى تقدم الروائع في توعية الجمهور بحقوقه، وكان هو هنالك يرسل دعاباته الظريفة التى اشتهر بها .. لقد كان متمسكاً بمبادئه وقد دفع ثمن ذلك حبساً جماعياً وانفرادياً ولم ينس رغم ذلك تلك المجموعة التى نشأ في كنفها، فقد اصبح رئيساً للنادى القبطى والجمعية ورأيته متحمساً لزيارة البابا شنودة للخرطوم. كان حماساً خال من ذلك التطرف بعيداً عن معناه الضار .. كان البابا شنودة يلاحق الفتنة الدينية في محاولة لاطفاء اوارها ولهيبها الحارق، وهو فيلسوف عميق الرؤيا تعامل مع تاريخ الكنيسة القبطية باعتباره تاريخ حضارة عظيمة وانسانية لصيقة بتكوين المواطن المصرى، ولها في السودان تجربة اخرى صنع جمالها وسماحتها السودانيون من مختلف النحل والعشائر.سمير جرجس مندوب المكتب التنظيمى المركزى الذى جاب كثيراً من مدن السودان منظماً ومروجاً لقناعاته وفي كل مكان خلف ذكرى لا تنسى ويذكره الجميع كصديق خفيف الظل وانسان رفيع الغايات يحب الذين حوله بعمق ويندمج في تفاصيل حياتهم.سمير جرجس ومايو : فالقليل من اشراقها ساهم في صناعته ولما استضرم بمباذلها رفضها بعمق وبعقل، لم ينكر دوره وهو يراها طريقاً لتغيير حياة الناس ولما تأكد له خطل ذلك لم يتباك حسرة وندامة لكنه عاملها في سياق الخطأ والصواب .. ترك الحزب الشيوعى حيناً وعاد اليه دون احساس بالهزيمة ..سافر الى القاهرة في ذلك الزمان عندما برر الجميع ابتعادهم عن الوطن الذى اصبح طارداً اختارها لقربها ولسهولة العودة منها والسودانيون سرعانما يألفون القاهرة فهنالك شئ منهم فيها ولسمير اصدقاء كثر من الكتاب والفنانين والمناضلين ولكنه عجز عن البقاء هناك وغادرها بليل عائداً ولينتقل من قلب الخرطوم القديمة الى ديومها. عاش عزيزاً وترجل عزيزاً وترك اسرة انموذجاً للتمازج والتسامح الدينى والعرقى ولكم استمتعنا بذلك الواقع الجميل وسعدنا بتلك الحالة التى جعلها سمير وزوجته العظيمة عفاف امراً ممكناً وطبيعياً. عزاءنا الحار لاهل السودان شيبه وشبابه واطفاله علهم يدركون ان الحياة الجميلة ممكنة ونستطيع ان تصنعها متى شئنا واين كنا وعزاءنا لابنتيه امل وسارة ولآل جرجس مسعود، رمسيس وماهر واخوانهم ولاصدقائه بابكر محمد على ومحمد ابراهيم نقد والتجانى الطيب واديب جندى ومامون يحيى منور
وغيرهم فقد رحل فارس لا يشق له غبار .. الا رحم الله سمير جرجس رحمة واسعة


Welcome to Samir Gergis Page

This site is dedicated to the late Sudanese Communist leader Samir Gergis... a rare human being...

Under construction.. come to visit soon...
Mohamed Elgadi

This page is powered by Blogger. Isn't yours?